هل يغني الإنترنت عن الكتاب؟
كثيرا من الناس ما يعتقد أن ظهور الإنترنت واستخداماته الواسعة وسرعته في إيصال المعلومات قد يغني عن الكتاب ويجعل الناس تعزف عن المطالعة, وكثيرا من الناس ما يعتقد أنه ما دام يملك جهاز كمبيوتر ومشتركا بشبكة الاتصالات العالمية, لم يعد بحاجة إلى الكتاب والقراءة, أو حتى شراء مجلة أو الاشتراك بدورية, أو الذهاب إلى مستودع كتب أو مكتبة العامة, أو التفاعل مع الناس والتواصل معهم, وقد يقول لنفسه, ما حاجتي إلى كل هؤلاء وأنا أستطيع أن أحصل على ما أريد من معلومات وأتصل بالناس بواسطة الإنترنت!
إن هذا الاعتقاد هو بلا شك معتقد خاطئ, وينم عن تفكير محدود وساذج. صحيح أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر التقنيات وتفجر المعلومات وسرعة الاتصالات وزمن السرعة؛ وصحيح أن العالم الذي نعيش فيه أصبح, بظهور الإنترنت, قرية صغيرة يستطيع الإنسان فيها أن يتصل بمن يريد, ويحصل على المعلومات التي يريد, ومن أي شخص يريد, وفي أي بلد يريد, وفي أي وقت يريد, دون أن يتجشم مشاق السقر, أو ينتظر البريد العادي لينقل إليه الرسائل وغيرها من المعلومات؛ وعلى الرغم من أن الإنترنت ييسر للإنسان الدخول إلى مواقع متعددة من جامعات ومكتبات وشركات ومؤسسات وأشخاص, ويقرأ مجلات علمية وغير علمية, وأخبار آنية وغير آنية, ويطالع كتبا وأشعارا وصحفا ودراسات وتحليلات وهو قابع في مكانه وراء حاسوبه؛ وعلى الرغم من أن الإنسان يستطيع أن يدرس ويحصل على شهادة من كلية أو جامعة عن طريق الإنترنت, ويستطيع أن يتاجر ويبيع ويشتري ويحب ويعشق ويتزوج ويستمع للأغناني, ويشاهد أفلام وفيديوهات فور بثها أولا بأول دون تأخير؛ إلا أن الإنترنت يظل لا يغني عن السعي والحركة, ولا يغني عن حب الإنسان في الحصول على الأشياء التي يريدها بنفسه, وبذل المجهود الذي يشعره بقيمته وإنسانيته, كما أن الإنترنت لا يعوضه عن المتعة التي يجنيها وهو يحصل على غايته بعرق جبينه سواء كانت في كتاب يشتريه, أو مجلة يقتنيها, أو رسالة يكتبها, أو مشوار يمشيه إلى المكتبة, أو فيلم يشاهده في سينما صاخبة, أو مسرحية يحضرها بممثيليها وأضوائها ورائحتها ورنين صوتها على مسرح ناطق, أو كتاب بين يديه يطالعه وهو متفيء ظل شجرة, أو مستلق على شط بحر, أو مسترخ في التخت, كل هذه الحالات الوجدانية لا يستطع الإنترنت أن يوفرها, ولن يستطيع, ما دام الإنسان لا يتفاعل مع الناس وجها لوجه, وما دام مضطرا لأن يظل جالسا وراء حاسوبه الساعات الطوال لكي يستخدم الإنترنت.
ناهيك عن أن الإنترنت ما زال غير متوفر لدى الغالبية العظمى من الناس, كما أن استخدامه بالشكل الكامل والصحيح يحتاج إلى مهارات لغوية وتقنية لا تتوفر لدى الكثير من الناس. علاوة على ما يحتاجه الإنترنت من ميزانية للاشتراك به واستخدامه لفترة طويلة لا يقدر عليها الكثير من الناس, وقد ترتفع هذه التكلفة عندما لا يستطيع الشخص المستخدم أن يصل للمعلومة التي يريد نتيجة لبطئ في سرعة الاتصال, أو لوجود ضغط على الشبكة من كثرة المستخدمين, مما يكلفه أيضا وقتا إضافيا غير مجديا ومدفوع الثمن, في الوقت نفسه, إلى جانب التكلفة المادية الأساسية, وقد ينقطع التيار الكهربائي فجأة, وقد لا تتوفر الكهرباء في بعض القرى والغابات النائية, مما يسبب إعاقة في الاتصال وقضاء الحاجات.
كما أن المعلومات التي يأخذها الفرد عن طريق الإنترنت تظل معلومات آنية مؤقتة تتغير كلما جرى عليها تجديد من قبل أصحابها, وفي هذه الحالة يختلف عن الكتاب الذي يصبح مرجعا في المكتبة مع مرور الزمن. ثم أن جلوس الشخص وراء الحاسوب فترة طويلة لاستخدام الانترنت قد يسبب له الكثير من الأمراض الجسمية كأمراض القلب والديسك وتشنج العضلات وضغط الدم وضعف البصر, حيث بينت الدراسات التي أجريت في الغرب واليابان أن الكثير من هذه الأمراض ترجع إلى الساعات الطويلة التي يجلسها الإنسان وراء الحاسوب واستخدام شبكة الإنترنت. ناهيك عما يسببه الإنترنت من شعور الفرد بالعزلة الاجتماعية والانطواء وانعدام التفاعل مع الناس, وتبلد الأحاسيس, وقلة الاختلاط وفقر التعاون, كل ذلك ناجم عن الادمان في استخدام الإنترنت.
أضف إلى ذلك أن المعلومات التي يحصل عيها الإنسان بواسطة الإنترنت تظل ضحلة ومختصرة وموجزة وكأنها نقطة من بحر, كمثل الذي يدخل رياض متنوعة فيقتطف من كل روض زهرة دون أن يشبع حاجته إلى ما في الروض من أزهار وأشجار ونباتات متنوعة ومختلفة. ويشبهه البعض "بالكتاب الأصفر" ( Yellow book ) الذي يحتوي على أرقام تلفونات, وعناوين, وأسماء أشخاص وشركات ومؤسسات ودور وبنايات وغيرها من المعلومات دون أن تزوده بالتفاصيل عن هذه المعلومات, مما يضطره الذهاب إلى الناس مباشرة ليقضي حاجاته, والإنترنت بذلك لا يعطي المعلومة بعمق كما يعطيها الكتاب أو المادة المطبوعة, ولا تدوم فيه المعلومة كما تدوم في الكتاب أو المادة المطبوعة, ولا يساعد الإنترنت المستخدم على التفاعل مع الأشخاص الذين يتعامل معهم وجها لوجه, كما أن المعلومات التي يزودها الإنترنت للمستخدم لا تنمي عقله بالشكل الصحيح ولا تستثير ذاكرته ومخيلته كما تفعل القراءة من الكتاب أو المادة المطبوعة.
ثم لا ننسى أن الذي اخترع شبكة الإنترنت وزودها بالمعلومات هو الإنسان الذكي القارئ المطلع المتعلم المزود بالعلم والمعرفة والمهارات, والتي ما اكتسبها إلا عن طريق الدرس والمطالعة والقراءة من خلال تفاعله مع الكتب والمكتبات, والدورية والمجلات, والكلية والجامعات, والاختلاط بالناس من ذوي العلاقة. ولا ننسى أيضا أن تطوير شبكة الإنترنت بين الحين والآخر وتحديث المعلومات التي تحتويها لا يقوم به إلا الإنسان العالم العارف المطلع على آخر العلم والمعرفة, وهذا كله يحتاج إلى الكتاب وقراءته, والتفاعل مع مضمونه وسطوره بكل ما فيه من معلومات وأفكار, وما يثيره من تصورات وأحلام ورؤى, وما ينميه من محصول لغوي ومفردات تعتبر عامل مهم من عوامل تنمية الذكاء والقدرات العقلية, وحافز على الاستزادة من العلم والمعرفة, والدليل على هذه الحقائق أن الإنترنت لو طغى على الكتب والمكتبات, وهمش القراءة والمطالعة, لأغلقت المكتبات الغربية أبوابها, ولتوقفت دور النشر عن طباعة الكتب والمواد المطبوعة بكافة أنواعها, ولعزف الناس عن اصطحاب الكتاب ومطالعته في كل مكان كما نلاحظ في الغرب حيث نجدهم يقرأون ويطالعون في الباص والسيارة والطيارة, والمطعم والقطار, وفي الحرم الجامعي, وأماكن التنزه وغيرها من الأماكن, ولو طغى الإنترنت على الكتاب لقل اهتمام المؤلفين والروائيين والكتاب والشعراء بالكتابة والتأليف ما داموا لم يجدوا من ينشر كتبهم, أو يشتري مطبوعاتهم, أو يهتم بقراءة أفكارهم وإنتاجهم, واكتفوا بما يضعوه على شبكة الإنترنت من صفحات لا تحتوي إلا على معلومات سطحية, ومختصرات ضحلة لا تفي بالغرض ولا تشفي الغليل ولا تبل العليل. وما دام العكس هو الصحيح, فسيظل الكتاب هو الرادف الأساسي للعلم, وستظل المطالعة هي المحرك الأول لتعلم الإنسان واكتسابه للمعرفة.
وباختصار, فعلى الرغم من فوائد الإنترنت وامتيازاته, إلا أنه لا ولن يغني عن الكتاب, وسيظل الكتاب هو الأساس مهما جنى الإنسان من وراء التكنولوجيا من فوائد, وسيظل تفاعل الإنسان مع الكتاب هو جوهر العلم والتعلم. فلولا الكتب والكتاب, والشعر والشعراء, والمؤلفون والمؤلفات, والجامعات والمكتبات, والشركات والمؤسسات, لما وجد الإنترنت ولما قرأ أحد أية معلومة على شاشته, فهؤلاء هم الأساس بما يغذون به شبكة الإنترنت من معلومات تعلن عن أسمائهم وإنتاجهم. من هنا, فسيظل القلم والورقة هما الأساس في التعلم والتعليم, وسيظل الكتب والكتاب هم المحور في تطور الحياة البشرية وعقل الإنسان, وذلك بما يفكرون ويكتبون, ويؤلفون وينشرون ويبدعون على صفحات الورق, قبل أن يعدوها على صفحات الإنترنت. وما الإنترنت إلا وسيلة من وسائل التعلم والتعليم التي تعمل على توضيح ما جاء في الكتاب من معلومات وإثرائها وإغنائها ولا يمكن له أن يكون بديلا عنها, ولن يكون أبدا. والحقيقة التي لا بد من الإعتراف بها, أن الإنترنت لا يغني عن الكتاب ولا يمكن أن يحل محله, كما أن الكتاب لا يستغني عن الإنترنت كوسيلة تعليمية معينة مثله مثل بقية الوسائل التعليمية وخاصة في هذا العصر الذي يوصف بعصر التقنيات.